--------------------------------------------------------------------------------
ليس المقصود في هذه الخاطرة تلك الكنوز والنفائس المستخرجة والمُمتحفة فقد نُهبت تحف العراق قبل نفطه مرارا سواء مع عصر المغول أو مع غول العصر. إنّ المقصود هو تلك الكنوز الافتراضية المنقورة في باطن الأرض والتي أصبح استكشافها دُرجة العصر ومنتهى المُراد عند الناس في البلاد العربية. حمّى اكتشاف الخزائن هي أعلى مراحل ’’الجهل الجديد’’ المتفشّي في عقول المتعلّمين وأشباههم والذي نمّقته الثقافة الصفراء وروّجت تتجيره فاكتسح العقول وزرع فيها العجز بعد الكسل والتواكل.
سُئلتُ عدّة مرات من قبل عامّة وخاصّة عن ظاهرة وجود الكنوز وعن طرق التنقيب عنها واستخراجها، فرائج الاعتقاد عند الناس أنّ المؤرخ هو بالضرورة عرّيف بالماضي القديم الغابروبخصوصيات الحضارات السحيقة زمن الفراعنة والأباطرة . ولنترك هذا التصوّر الشعبيّ لمهنة المؤرخ على ما فيه من تهميش للمختصّين في العصور الحديثة أمثالي ولنأتِ إلى لبِّ السؤال فلم أنجح صراحة في اقناع تسعة أعشار من ساءلوني بثقابة رأيي ’’النسبيّ والعقلاني ’’ والذي مفاده أنّ الكنوز أنواع وكلّ لُقاء أثريّ مهما كان نوعه هو إضافة لمعرفة ما تلف من حضارتنا وأنّ الكنوز الذهبية قليلة ونادرة وهي مرتبطة بالطقوس الجنائزية القديمة أو بعامل الصدفة وحتى في حالة وجودها فالهمّ ليس قيمة السبيكة المالية في سوق المصوغ أو في سوق التهريب الأثريّ بل الأهمّ هو قيمتها التاريخية باعتبارها لبنة من لبنات ماضينا وأردفُ بأنّ طرق البحث عنها خاضعة لقوانين وتشريعات حازمة وأنّ خبراء الآثار لوحدهم بمقدورهم استكشافها واستخراجها ونفع المجموعة بمردودها الأثريّ والعلميّ والمتحفيّ .
أسردُ رأيي بكل حماسة وثقة وأعدّدُ الأمثلة وأستشهد بما وقع من مجهودات في مصر لاستكشاف الكنوز الفرعونية بطرق علمية والمجهود الذي يبذله الدكتور زاهي حواس وأمثاله لمقاومة النبّاشين والنهّابين وشبكات مافيا الآثار العالمية فيباغتني صاحب السؤال بسرد تفاصيل ’’ استخراج’’ خزانة’’ هنا و’’ مالية ’’ هناك، أصرخ بأنّ الأمر مجرّد هراء ويتنافى مع العلم والعقل فيباغتني محدّثٌُُ آخر بصدى استخراج كنز بآلات تكشّف رقمية ومغناطيسية أقول انّ تلك الآلات خاضعة مثلها مثل الأسلحة إلى تراخيص استيراد وشراء ومسك فتزداد ثقة محدّثي في درجة جهلي بخفايا الأمور وقد أشار عليّ أحدهم بالبحث في الشبكة الرقمية فوجدت من ضمن ما وجدت : ’’أجهزة كشف الآثار والمعادن والأحجار الكريمة بمواصفات خاصة للدول العربية وتركيبة طبقاتها الأرضية …أجهزتنا تعمل بدقة متناهية ولا تؤثّر فيها الرطوبة ولا التربة البازلتية ’’ ثم تجد صورا ومجسّمات للجهازورابطا الكترونيا لتفاصيل الأسعار والتزوّد.
تتداول مقاهي المدينة ودكاكين القرية اسم ثريّ جديد برز نجمه مع طلعة هلال الشهرويتحدث أقلّ الناس فضولا عن مغامرته مع الساحر ومع البخور والتمائم والتعاويذ التي استعملها لطرد ’’ المانع’’ وإبعاد ’’الحارس الأسطوريّ ’’ للكنز وتجترّ الألسن بصفة عادية طرق تصريف الغنيمة والوسطاء والحماة .
أعاود إقناع محدّثي نافيا مكذّبا ناصحا محذّرا من الجهل والجشع والدجل ولكن بنبرة أقلّ حماسا داخلها الشكُّ فجعلها فاترة . أفشلُ في إقناع سامعي رغم مجاملته لي بقوله ’’ربما ’’ و’’ الله أعلم ’’ وتستبد بي الظنون فأحاول عبثا إقناع نفسي بحصافة رأيي خصوصا أنّ الظاهرة استفحلت وأصبحت مثل الهجرة السرية إلى أوروبا بمثابة الهوس الجماعي والحمّى المعدية للشّيب قبل الشباب.
أطالع الصحف السيّارة عرضا فيدفعني هزالها وخواؤها إلى تصفحّها من الخلف بدءا بتكهنّات الطقس ولائحة الصيدليات المفتوحة ’’ أفواهها ’’ليلا ومواقيت القطارات ’’ السريعة’’ وأسعار العملة وبراميل النفط - ولطالما استعذبتُ في ذلك الركن تسمية صنف ’’العربيّ الخفيف’’- وبعد مروري بصفحات الكرة وحروب تنقلات اللاعبين والبيع والشراء وما يرافقها من جدل صريح و’’ديمقراطيّ’’ بين فرقاء البلد الرياضيين فأتيقّن أنّ برنامج الشرق الأوسط الجديد برزت بشائر نصره في الكرة على الأقلّ وأتوقّف بعد ذلك عند المقالات الإشهاريّة للحكيم الروحانيّ فلان والعرّاف العالميّ علاّن ثم أنتقل إلى صفحة ’’ الحوادث ’’ و ’’ صدى المحاكم ’’ فتلوح لي سنابل الحصاد ملأى يانعة بعد الزرع الإشهاريّ المذكور فهذا موظّف يسرق البنك ليشتري بخور الكنز وذاك يتسوّر منزل جاره ليسرق مصوغا يموّل به ساحر الـ’’خزنة’’ ويهالني تنامي قضايا المسك بعصابات التنقيب عن الآثار والتحف وما يرافقها من قضايا التحيّل والدجل فكم من شخص فقد ماله ثم عمله وصوابه بسبب وقوعه في أحبولة الدجالين الواعدين بجنة الكنوز الذين يستقدمونهم من نيجيريا وبوركينا فاسو والسينغال طالما أنّ سََحَرَتَنا المحليين بمن فيهم المغاربة فشلت وصفاتهم وعقُم تنجيمهم أمام خزائن الكنوز فيتمّ الالتجاء- أسوة بالكرة- إلى سحرة محترفين ومقتدرين من افريقيا السوداء بما انّ السّحر الزنجيّ الافريقانيّ اكتسب شهرة وصيتا مقارنة بالسحر المغربيّ الأبيض المتوسّط.
لا أمتلك نسبا دقيقة حول تنامي قضايا البحث عن الكنوز ولا عن ضحاياها المغرّر بهم غير أنّي أصرّ على تصنيفها ضمن أكثر أنواع القضايا والجرائم تداولا دون أن ننسى طبعا عمليات التنقيب والنهب والنبش التي لا تصل القلم الأمنيّ والقضائيّ .
خلْتُ أنّ الظاهرة مرتبطة ببعض الأقطار العربية التي لها مخزون أثريّ وفير موروث من فجر حضارات الفراعنة وفينيقيا وبابل وقرطاج وتدمر ولكن ما راعني إلا والهوسُ يزحف على جلّ الأقطار العربية غابية وبحرية ونهرية ورملية .
عادت بي شقاوتي إلى الإلحاح في مساءلة المختصّين لأروي ظمأ ’’ عقلي ’’: فهل يعقل أن نعود إلى الوراء بعد نصف قرن من جلاء الاستعمار؟
فعندما كانت تحفنا وكنوزنا تُنهب وتُنقل إلى متاحف أوروبا وقصورها صنّفنا الأمرَ في خانة الجرائم الاستعمارية والآن ونحن في عصر البناء الوطنيّ تتلاشى ثقتنا بعالمنا وخبيرنا الأثريّ وتساورنا الشكوك حول نجاعة برامج مديريات الآثار والتراث التي انهزمت بالضربة القاضية أمام ثقافة البخور والدّجل والنهّابين المحترفين والممهورين.
وأتساءل بحرقة مثل غيري : لماذا لا يتمّ اعتماد سياسة شفّافة وواضحة في هذا الصدد بفرض المسح الأثريّ الشامل في كل قطر عربيّ ثم باتّباع سياسات صيانة وحماية ناجعة للتراث والآثار وبفتح الباب أمام الشباب الطالبيّ والمتطوعين والمجنّدين للمشاركة في عمليات التنقيب والبحث تحت إشراف مختصّين وخبراء؟ هل نجازف بترك تراثنا سائبا ومدفونا لتنجّيه الصدف من النبّاشين الذين يبحثون فقط عن الذهب والياقوت فيبعثرون كلّ ما يجدونه من أواني ومصابيح وايقونات ونقائش ؟ أم هل نقنع فقط بهبّات فرق البحث الأجنبية الزائرة والمتعاونة والتي’’ تجود’’ بتمويلات الحفر المشروطة بالريادة العلمية وأولوية الإشراف وأشياء أخرى …
ومع كلّ هذا فما يزعجني ليس فقط بيروقراطية إدارات الآثار ولا عمليات التهريب الأثريّ التي لا يخلو منها مجتمع والتي يصعب القضاء عليها نهائيا وبالكامل، إنّ الذي يؤرقني هو تفشّي ظاهرة مَتْحفة أدمغة البشر وتوجيه جهودههم للأرض لا بغية حرثها وزرعها وتعميرها بل قصد حفرها ونبشها.
ليست المسألة صدفوية لقد أدّى الإفلاس واليأس وتراجع فرص العمل وصعوبة الترقّي الاجتماعيّ وفشل النموذج التعليميّ وفتور النخوة ’’ الوطنية ’’ إلى المراهنة على سراب ’’الكنوز’’ وجنّة ’’ الحَبّْ الحرّ’’ وكُتل ’’الزبرجد والمحبوب ’’ وياليت الأمر مرتبط بفراغ الجيوب بل هو نتاج خواء الرؤوس .
كان فقرنا في عقود الستينات والسبعينات خلاّقا فدفع بنا إلى استجلاء تراث أبي ذر وابن قرمط أمّا اليوم فقد أصبح فقرنا هدّاما مؤذنا بالخراب الذي نال العقول قبل الجيوب فاستفحل فينا المصْفَرّ ُ والمقفرّ ُمن الثقافة.
تروّجُ المواقع الالكترونية اليوم إلى كتب من نوع ’’ فاتح الأقفال وطارد الأرصاد عن الكنوز" وهو يشتمل على تركيب أنواع البخور لفتح الكنوز وفكّ الطلاسم وحلّ الأقلام القديمة اليونانية والسريانية والرومانية …’’ و’’السِّفر النّفيس لتسخير جنود إبليس ’’ و’’ الأمكان المرصودة ’’ و ’’ مفاتيح الكنوز في حلّ الطلاسم والرموز..’’ وهذه قطرات فقط من البحر الأصفر العائد المتوثّب.
ولا تسل عن تجّار البخور والتعاويذ والحشائش فقد أصبحت لهم مواقع بيع الكترونية لترويج ’’السندرود والفاسخ والفيسوخ والحنتيت وتفاح الجنّ وبيض الغول وروح الدفلى…’’وهي موادّ استراتيجية قد نستعمل عائداتها مستقبلا للتعويض عن غلاء أسعار الطاقة والمواد الغذائية .
يُطلبُ من الحالمين بالكنوز ما يوافق آلاف الدولارات لاستقدام ساحر ماهر يخترق موانع الكنز ولشراء وصفة البخور المناسبة مع ما يرافقها من مطالب غريبة وتعجيزية مثل مرّارة تيس أسود أو ريشة ديك أعور أو مصران الحولي اليتيم وبعد انكشاف هذه الأباطيل انتقل المتحيّلون إلى مكائد جديدة فهم يعرضون على ضحيّتهم تمكينهم من الموافقة على الحفر في ضيعته وخرائبه و’’الباقي عليهم ’’ وينجحون في استخراج لُقيةًً ’’ مزيفة ’’ من الذهب ويحبكون مسرحية نفاذ مفعول البخور وضرورة شراء كمية أكبر وأقدر لاستخراج كامل الكنز فتنطلي حيلهم ويقع في شراكهم الشاطر قبل الغافل.
ويستنجد المختلفون حول الأمر بالمفتيين والفقهاء مسلّمين بوجود الكنوز وباحثين فقط عن ِحلِّية استعمال البخور والطلاسم لاستخراجها فيجيبهم فريق بجواز ذلك ’’ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ’’ ( البقرة 29) ويوصيهم فقط بعدم الحفر في أرض الغير دون علمه ويمنعهم فريق آخر ويفتي بعدم جواز استعمال الطلاسم والجنّ لأنه وجه من وجوه الشرك .
وبين جواز استعمال الطلسم والبخور وعدمه يحير الفؤادُ وينضبُ العقل بعد الجيب وقبله أحيانا وتفتح الموقع الالكترونيّ مجدّدا فتجد ما يلي :
’’السلام عليكم أنا أمين من الجزائر من هواة البحث عن الكنوز، في منطقتي توجد الكثير من الكنوز المخبّأة التي تعود الى الفترة الرومانية وقيل عن المنطقة أنها تحوي الكثير
أنا أبحث عن أصدقاء يساعدوني: اتركوا أراءكم …إلى اللقاء ’’
يجيبه عاقل فينصحه بترك المغامرات وتضييع المال واللهث وراء السراب وينصحه بأن ’’ القناعة كنز لا يفنى ’’ ويتدخل آخر عارضا المساعدة واصفا تميمة أو شاهرا لساحر منعوت أو آلة جبّارة فيحتار دليل أمين ويقول لهم : ’’ العضو صاحب السؤال كيف أخرج الكنز المدفون باختصار عندما يكثر الكلام أفقد التركيز، جزاكم الله خيرا’’
لا أدري ما وقع لأمين الجزائري ومهيب التونسي ومعيد الشامي وسعيد اليمني، كلّ ما أدريه أنّ الخبير انهزم أمام البخور وحتى حكاية المزارع وأنجاله الحالمين بالكنز التي كرّرها مدرّسنا العبوس المتجهّم على مقاعد الدراسة أصبحت بلا معنى لأنّ فلْح حدائقنا وأراضينا لم يعد نافعا في الزمن الأصفرالالكترونيّ.
ولئن حاول غيرنا غزو أعالي السماء وتوفّقَ فها نحن نكابد من أجل اكتساح أسافل الأرض وحضيضها …ولم ننجح.